بقلم: د . الطالب بويا أبا حازم هلوسات في زمن كورونا..مسار حياة

العيون الان

بقلم: د . الطالب بويا أبا حازم هلوسات في زمن كورونا..مسار حياة

وأنا أعيش بعض لحظات الحجر الصحي وحيدا توقفت هنيهة مع ذاتي وعادت بي الذاكرة لما يربوا على خمسة عقود مضت: تذكرت أن مسار وجودي في هذا الكون بدأ تحت خيمة بدوية الله وحده يعلم كيف تم ذلك، وأمي لم تستعن بطبيب ولم تزر مصحة للولادة ؟!فتحت عيناي على محيط تتحرك فيه كائنات مختلفة قليل من البشر وكثير من الحيوانات، إبل وغنم وكائنات أخرى. وجدت نفسي بين أحضان رجل ضخم مفتول العضلات قوي النبرات، مهاب تخشاه كل تلك الكائنات: سأعرف مع مرور السنين أنه أبي وأنه لطيف، عطوف بي وأنه مصدر أمني وطمأنينتي.حين بدأت اكتشف ما بحولي توقفت عند منظر شيخ وقور يجلس عند باب الخيمة ويردد باكرا ‘’أعد لنا بالعيد يا معيد ونحن سالمون يا مجيد’’ سيتكرر المشهد خلال السنوات الموالية وسيترسخ في ذهني أن الأمر يتعلق بيوم العيد وأن الشيخ ذو العمامة الكبيرة والسلهام المسترخي والسبحة البراقة هو جدي ‘’الداه’’ محمد فاضل.

لم أكن أستوعب حالة ألا استقرار وتغيير الأماكن من حين لأخر لأفهم لاحقا أننا رحل وأن ما يناسبنا هو مكان وجود الكلإ والماء لماشيتنا.تشاء الأقدار أن نرحل هذه المرة مكرهين من البادية إلى المدينة، سيكون ذلك من محاسن الصدف بالنسبة لي ولن أخوض في أسباب هذا التحول المفاجئ، عليكم فقط أن تتخيلوا بادية الصحراء سنة 1975.لقد أصبحت طفلا في سن الدراسة وهناك بالطنطان بدأت صفحة أخرى من شغب الطفولة، كر وفر في الأزقة والشوارع وحروب لا تنتهي مع أطفال الأحياء المجاورة.

كل ذلك طبعا بعد أن يطلق سراحي من المحضرة ) أجامع ( حيث يصر جدي من أمي ‘’سيداتي’’ )الداتي(رحمة الله عليه، شيخ المحضرة على أن أكون آخر المغادرين. كنت أتقبل الأمر على مضض لكن عادة ما تخفف جدتي أم الفضل )بوبة( رحمة الله عليها من غضبي حين كانت تخصني بفطور بمعزل عن الآخرين. مرت الأيام بسرعة البرق لأتمم حفظ الأحزاب الأولى من القرآن بمحضرة عمي الشيخ محمد فاضل )أبايى( إمام مسجد الحسن الثاني بالطنطان، فقيه ماهر في تلقين القرآن وعلومه، صارم في معاملته مع تلامذته، تخرجت على يديه أجيال من حفظة القرآن بالصحراء.وفجأة جاء القدر المحتوم، سنرحل بعيدا عن الطنطان. من منكم يدلني على موقع بوعنان في خارطة مملكتنا السعيدة؟ لقد التحق الوالد بصفوف القوات المساعدة منذ شهور وقرر أن نرافقه في رحلة طويلة محطتها الأولى قرية صغيرة بشرق البلاد تدعى: بوعنان.كانت هناك بدايتي مع مشوار الدراسة. كان الزمن صيفا فالتحق كل أبناء ‘المخازنية’ ‘’بالقشلة’’ حيث يوجد روض للأطفال، ليلتحق الجميع مع بداية الموسم الدراسي بقسم الأولى إبتدائي: ‘’التحضيري’’ وهو المستوى الوحيد الذي يوجد بتلك المدرسة.لم يمضي شهر على بداية الدراسة حتى تفطن معلمي أن مستواي متقدم جدا على باقي التلاميذ فأحضر مدير المؤسسة وبدأ في اختباري في الكتابة والقراءة والرياضيات، التفت المعلم على المدير وبدآ في دردشة ثنائية فهمت من خلالها أنه علي استدعاء ولي أمري للحضور على عجل وفعلا فعلت.ستكون الصدمة بالنسبة لي إنه علي أن أغادر زملائي وأصدقائي في المدرسة وأنتقل فورا إلى المدرسة الأخرى البعيدة. لقد أخبر المدير والدي بأن مستواي متفوق وأنه علي أن أنتقل إلى المستوى الثاني: الابتدائي الثاني؟لم يمر على وجودي بهذه المدرسة سوى شهر واحد لأودع زملائي من أبناء ‘المخازنية’ على مضض.وبدأ بحمد الله مسار التفوق الدراسي من بوعنان إلى جرادة إلى سيدي بوبكر على الحدود المغربية الجزائرية لأعود منتصف الثمانينات إلى مدينتي العزيزة بالطنطان. لقد أصبحت شابا يافعا، أتممت هناك مساري الإعدادي وأنهيت مرحلة الثانوي ببكالوريا في العلوم التجريبية بثانوية محمد الخامس بالطانطان. لم يكن لدي ما يشغلني كثيرا خلال تلك الحقبة سوى ولعي بالرياضة وكرة القدم بالخصوص، فقد تنقلت داخل معظم فرق الأحياء بالطنطان وملاعبها التقليدية المشهورة كقلب هجوم معجب برأسية: روبيش ودهاء باولو روسي وبراعة گابرييل باتيستوتا….وأنا أعد حقائبي للسفر إلى مراكش حيث سأبدأ مساري الجامعي مع نهاية الثمانينات سألني والدي وهو يودعني: مع من ستسافر؟ ومن ستعاشر هناك يا ولدي؟ لم يعر الوالد اهتماما لوجهتي، أهي أكادير أم مراكش أم الرباط…؟ ولم يكن مهتما بتوجهي الأكاديمي أهو الأدب أو القانون أو العلوم بأنواعها؟ لقد كان منشغلا بنوعية الرفقة وأسمائهم.نعم العشرة هي: ثلة من الكادحين بقليل من الإمكانيات وكثير من الطموح والعفة والأصالة. استأجرنا سيارة أجرة من نوع مرسيدس وجمعنا حقائبنا القليلة وتوجهنا إلى مراكش. كل ما كان لدينا من توجيه هو أن على المقبلين على شعبة الاقتصاد أن يتقنوا الرياضيات والفرنسية والاجتماعيات، وهنا بدأ المشوار الجديد: إنها الجامعة والكثير من الناس لا ينتبه لمعنى كلمة fac أو faculté أو facultatif إنها الاستقلالية والحرية والاختيارية: نحن الآن بدون حسيب أو رقيب لا أحد يوقظنا صباحا للذهاب إلى الدراسة ولسنا مجبرين لتبرير غيابنا قبل الدخول لمدرج الجامعة، وحده الضمير والإحساس بالمسؤولية والنضج الفكري من يوجهنا.وأنا أسبح داخل هذا الفضاء المفتوح على مصراعيه عاهدت نفسي ألا أفرط في شيء واحد: أن أحافظ على صلاتي ولا أتركها. الجامعة مدرسة ومحطة محورية في حياة الأفراد، فهي تعلم الطالب مبادئ المسؤولية والاعتماد على النفس في كثير من القضايا وهموم الحياة وهي كذلك معبر محفوف بالمخاطر، فضريبة الحرية مكلفة حين يساء استغلالها.مرت سنوات الجامعة بردا وسلاما على العشيرة وعلى الأفواج الأخرى من أبناء جيلي وعدنا إلى ديارنا وشواهدنا شاهدة على جديتنا واجتهادنا خلال غربتنا وبعدنا عن الأهل والديار.اعتقدت أسرنا أن المهمة قد انتهت وأن تضحياتهم كللت بالنجاح وأن ثمار استثمارهم في أبنائهم قد أينعت وحان قطافها. إلا أن رياح الوضع بالمغرب قد جرت بما لم تكن تشتهيه سفينة جيلنا التي جاءت بنا إلى عالم البطالة. فقد تزامنت سنة تخرجنا في منتصف التسعينات مع إعلان الملك الراحل الحسن الثاني أن المغرب يعيش مرحلة السكتة القلبية وأن الدولة لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الوظائف بالإدارات العمومية.لم يكن أمامي سوى أن أخوض تجربة نضالية مع زملائي العاطلين من حملة الشواهد الجامعية. كانت تجربة فريدة ومليئة بالأحداث والتضحيات: مرة حل الوزير القوي في الداخلية آنذاك بالعيون لتأطير لقاء جماهيري كبير بقصر المؤتمرات، وكانت الولاية قد أعدت لائحة للمتدخلين وحددت لهم سلفا موضوع مداخلة كل واحد منهم. وأنا جالس وسط القاعة إلى جانب صديقي )ع.ب( لم أعد أحتمل أن تمر عشر مداخلات دون أن تثار مشكلة المعطلين، فرفعت يدي مطالبا بالكلمة: حاول الوالي مقاطعتي حين تأكد له أني لم أكن ضمن المبرمجين فنهره الوزير قائلا : ‘خليه يتقيأ’’تمالكت قواي وواصلت مرافعتي قائلا: ‘ لا يمكن لأحد أن يزايد علينا بالوطنية لكننا كمعطلين نطالب بحقنا في الشغل في إطار دولة الحق والقانون، فقد عانت أسرنا منذ سنوات دراستنا ونعاني نحن اليوم من ‘’البطالة والتهميش’’.عدت إلى مكاني منتشيا تحت تهانيء زملائي بعدما أزحت تلك الغمة التي خيمت على قلبي. وأنا أغادر القاعة تجمهر حولي رفقائي مهنئين ومنهم من خاطبني مازحا ‘’هيئ نفسك لحبل المشنقة’’موازاة مع فترة النضال هاته أمضيت سنوات أدرس بمعاهد خاصة ( E.S.T.P و PIGER) بالعيون: درست أجيالا من الطلبة مادتي المفضلة المحاسبة comptabilité) (laومواد أخرى ذات الارتباط. تجربة مهنية سيكون لها الأثر الإيجابي على مساري الإداري لاحقا.تعاقبت الدفعات من الخريجين وتوالت سنوات الإحباط والإنتظارية القاتلة، لقد بلغ السيل الزبى: قدماؤنا من المعطلين يشرفون على ختم عشريتهم الأولى في البطالة، فكان القرار الحاسم ‘اعتصام مفتوح إلى أن ننتزع حقنا في الشغل؟’كان ذلك في بداية شتنبر 1999، فئات اجتماعية أخرى ستنزل إلى الشارع من طلبة وأشخاص في وضعية إعاقة وأهل الفوسفاط: تعددت المطالب لكن الشعار كان موحدا: عدم المس بالأمن العام أو شل حركة الشارع والالتزام بالمطلب الاجتماعي لكل فئة. كان اعتصاما حضاريا بكل المقاييس لم يشل حركة المرور ولم تخرج شعاراتنا عن سقف مطالبنا الاجتماعية وظلت أيادينا ممدوة لكل حوار جاد من شأنه أن يزحزح ملفنا المطلبي عن موضعه الذي عشعش فيه طويلا، ولأن رؤوسا كانت قد أينعت وحان قطافها فقد جاءت نهايتها على خلفية سوء تدبير تلك المرحلة.لم تكن الساكنة تتوقع أن يفك ذلك الاعتصام بكل تلك القسوة والعشوائية فكانت أحداث شتنبر 1999 وخيمة العواقب لولا الحكمة والتبصر وبعد نظر الملك الشاب آنذاك حين أمر بالاستماع إلى مطالب المحتجين وتشخيص أوضاعهم.وبعد أن كلفت كناطق باسم لجنة الحوار من طرف زملائي المعطلين فقد كان ينتظرنا يوما عاصفا بمقر بلدية العيون حيث حل وفد رفيع المستوى يتكون من خمسة عشر وزيرا يترأسهم وزير الداخلية آنذاك. كان علي أن أنقل بأمانة رسالة المعتصمين إلى الوفد الوزاري. ونحن نحضر لذلك الاجتماع المصيري في منزل عائلة أحد الإخوة المعطلين تداول الجميع صيغة المطلب الجماعي الذي سيرفع إلى الوفد الوزاري، وتم الاتفاق على ما يلي ‘ لم يعد اليوم مطلبنا الشغل كما كنا نطالب بذلك بالأمس بشكل حضاري في إطار دولة الحق والقانون، إننا نطالب بمحاسبة من انتهكوا حرمات بيوتنا’ قيل من سيتكلف بنقل هذه الرسالة؟أشارت إحدى الأخوات )ع .خ( من داخل تلك ‘’المصرية’ الفسيحة :’’ أنت يا أبا حازم’’ ياله من حمل ثقيل؟! التفت يمينا وشمالا لأتأكد من إجماع الحاضرين وأجبتها قائلا: نعم أنا مستعد لذلك بشرط أن يكون معي : des Hommes avec H majuscule قاطعتني بالقول ماذا يعني ذلك؟قلت لها: أن يكون معي رجال ونساء بمعنى الرجولة. شكلت تلك اللحظة العصيبة فسحة من المرح بعد نقاش طويل وأخذ ورد بأعصاب مشدودة ومعنويات منهارة.حل اليوم الموعود وكنا جميعا في مستوى الحدث: مرافعات قوية ومستوى عال من الانضباط والإحساس بالمسؤولية أثارت إعجاب السادة الوزراء ومن رافقهم من المسؤولين. شكل ذلك اليوم التاريخي بداية انفراج لحل معضلة لازمتنا طويلا وسويت فيه العديد من الملفات لشرائح اجتماعية أخرى. وللتاريخ – والله على ما أقول شهيد – فإن ذلك الجيل الذهبي من الأطر والكفاءات ظل على مدى أزيد من خمس سنوات من المعاناة ملتزما بمطلبه الوحيد المتمثل في الشغل والعيش الكريم في وطنه المغرب محترما للقوانين والمؤسسات مستعدا للعمل بتفان وإخلاص في أية جهة من جهات المملكة، ونفتخر اليوم بالرصيد المهني لهذا الجيل المتميز في كل إدارات الدولة ومؤسساتها.تفاوتت حظوظنا وتنوعت قطاعات اشتغالنا : التعليم والصحة والتجهيز والمالية والفوسفاط والفلاحة والداخلية وقطاعات أخرى متعددة كلها خلقت مناصب للشغل وساهمت في إدماج حملة الشواهد حسب حاجياتها ووفق التخصصات المطلوبة. وأنا أنتظر حظي كباقي المعطلين أفاجئ باستدعاء من مؤسسة التعاون الوطني للحضور إلى مقر مندوبيتها بالعيون.

سألت يمينا وشمالا عن التعاون الوطني؟ قيل لي إنه مؤسسة تابعة لوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية. حملت الاستدعاء وذهبت إلى المندوبية وفي نيتي أن أعتذر عن الالتحاق بهذه المؤسسة التي لا أعرف مجال تدخلها.استقبلني مندوب المؤسسة آنذاك الحاج (أ.س) الذي سأكتشف فيما بعد أنه قيدوم القطاع وأنه هو من افتتح هذه المندوبية مباشرة بعد المسيرة الخضراء فحالني على لجنة مركزية يترأسها نائب مدير التعاون الوطني )م.ز( . بعد أن قدمت نفسي للجنة التمست منهم إعفائي لكوني لا أعرف شيئا عن هذه المؤسسة وأن ما توصلت به من معلومات يجعلها بعيدة من اختصاصي كرجل اقتصاد وأنني أطمح إلى الالتحاق بقطاع أخر أقرب إلى مجال تخصصي. فقاطعني رئيس اللجنة قائلا: ومن قال لك أننا في التعاون الوطني لا نتوفر على مصالح للمالية والاقتصاد؟ ثم إننا مؤسسة تحتاج إلى الأطر وبإمكانك أن تتحمل المسؤولية مبكرا إذا ما أثبتت كفاءتك في ذلك؟بعد أخد ورد أعطاني رئيس اللجنة (م .أ ) مهلة للتفكير وطلب مني أن أعود قبل الساعة الرابعة زوالا لأحسم موقفي. خرجت من إدارة المؤسسة في حيرة من أمري وأنا أحدق في بناياتها المتهالكة وفي درجها الخشبي. رجعت مكسور الجناح إلى مندوب الوزارة الوصية )وزارة التشغيل ، رجل بأخلاق عالية قاد معنا مرحلة التفاوض وإعداد الملفات بإشراف من الوزير آنذاك السيد خالد اعليوة. فطن الرجل لحالي وأني لست على ما يرام. قلت له لازالت أمامي خيارات أخرى ولست مرتاحا لهذه الإدارة، فأمدني بنصائح ودية ووجهني توجيها حكيما وعرفني على مزايا القطاعات الاجتماعية، فتوكلت على الله وعدت مساءا إلى لجنة الانتقاء وأعلنت لهم رغبتي في التحاق بمؤسسة التعاون الوطني.

‘’الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله’’، قرار لم ولن أندم عليه مدى حياتي فقد تبين لي فيما بعد أن لي بهذه المؤسسة العريقة أجران: أجر مادي وأجر مع الله سبحانه وتعالى من خلال رفقة الفقراء والمساكين إسوة بالحديث النبوي الشريف : ‘’اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ ِ’’.

كان ذلك في يوليوز سنة 2000 حيث التحقت بالإدارة المركزية للتعاون الوطني بالرباط لتبدأ مسيرة أخرى من حياتي المهنية سأعود إليها لاحقا خلال رمضان القادم إن شاء الله إن كان في العمر بقية، وأرجوا الله صادقا ألا يكون ذلك تحت قفص كورونا، إلى ذلكم الحين أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه

 

ADS TOP

التعليقات مغلقة.