وليمة متغيرة… بقلم اكدر بشري

العيون الان

بقلم: اكدر بشري

لم يكن الأولون ليهتموا بتوقيت الوليمة، فإما ليلة الإثنين أو ليلة الخميس، فيرسل المولم من ينوب عنه في دعوة الناس للحضور لمناسبة الزفاف، حيث جرت العادة أن يولم الرجل في مناسبة ابنه أو ابنته بنحيرة تغمر رائحة طبيخها أزقة الحي.
فعادة ما تنصب الخيام أو “لخزاين” في غير الطرقات ويجمع أهل العرس الأثاث والأفرشة والأواني من دور الأقارب والجيران وغيرهم.
وهكذا يفرش الحصير وتبسط القطائف والأفرشة الحمراء والزرقاء والخضراء، دونما مراعاة لانسجام بين الألوان ولا هم يحزنون، وتوضع الوسائد في محيط الخيمة، وتصفف صفوفا متقاطعة في الوسط.
ويجلس الناس أرضا سواسية، دون تمييز ولا تحيز متناظرين في كل الاتجاهات، برؤسائهم ومرؤوسيهم.
عند المدخل تجد “طبالي” الشاي الأخضر وبجانبها “مجامر” الفحم فوقها “براريد” شامخة شموخ أهلها لا تزيدها النار إلا إصرارا وصمودا في وجه عوادي الزمن.
ولما يحن الوقت تقام صلاة العشاء، وينادى على صنوف الأحجار قصد التيمم، ويصلي القوم جماعة ويشفع من أراد، ويوتر أغلبهم، بينما يؤخر الشيوخ الوتر حتى قبيل النوم.
وقد يحدث أن يعقد القران على مرأى و مسمع من الناس، فيحضر الولي والوكيل ويسمى المهر، ويكون الدعاء للمتزوجين ويشهد الناس دعوة الخير، فيدعو الناس ربهم للم الشمل والستر، وصلاح الجماعة وهداية الأبناء، وشفاء المرضى ونزول الغيث، وصلاح الإمام وبطانته.
وقد يعظ فقيه أو إمام إن سنحت له الفرصة.
وهنالك تسمع الزغاريد من بعد، و ملاحم “التسنكيف” وهي أهازيج و متواليات غنائية مسجوعة ترددها العجائز.
لحظات ويوزع شباب الحي الشاي على الحضور، مرفوقا بما تيسر من “الباسطة” و حبوب “الكرتة” وأما الشراب فيتناول الضيوف “جيرات” اللبن، في جو احتفالي يغرق فيه الترحيب والترحاب أسماع الضيوف والمدعوين، وهم يتطيبون برائحة المسك
و يشتمون روائح بخور عبق يكاد يحجب الرؤية.
“مرحبا وسهلا و هلا” مكررة مرات ومرارا.
ولما يجهز العشاء يقدم الطست للناس كافة ليغسلوا أيديهم، ثم يتحلقوا حلقا حلقا مكونة من سبعة أفراد. ثم يؤتى بالخبز و عادة ما يتكون الطابق الأول من كبد الإبل وشحم سنامها المسمى محليا بالذروة، و متعلقاته من كلي وقلب ولحم، يجري تقطيعها قطعا صغيرة في صحون متوسطة الحجم، ثم ترفع فيؤتى بصحون كبيرة ملئت بلحم الإبل المطبوخ على الجمر الموقد من فحم شجر الطلح.
وبعد رفعه يؤتى بصحون الفاكهة، وعادة ما يقوم أكثر القوم قبل مجيئها، باعتبارها أطباقا مستحدثة آنذاك.
بالمقابل، لم يعد يولم اليوم للعرس إلا في أيام معلومات ومعدودات، فالكل في حاضرنا يطارد العطل المدرسية والإدارية، ليظفر بمجيء الأهل وحضور الأحباب في زمن السرعة.
فبداية ينفق أحدهم أموالا طائلة على طباعة الدعوات، التي تحمل أوصافا ترد أحيانا زورا وبهتانا فتجدها تحمل اسم الإبن “البار” و “الآنسة المصونة” و زوائد لا معنى لها كتحديد عنوان المنزل/ السكن، أو عنوان قاعة الأفراح المحتضنة للوليمة، وقد يدعوك أحدهم هاتفيا من مكان بعيد.
وهكذا حل السبت محل الإثنين، وجاء الأحد عن الخميس بديلا، واستبدل العشاء بالغداء، فلم يعد أحد يولم في غير عطلة نهاية الأسبوع، أو عطلة مدرسية أو عقب عيد ديني إلا لماما.
ولما تتلقى دعوة للغداء، يصلي القوم الظهر في أقرب المساجد إلى مكان الوليمة، و يتوجهون تباعا إلى الوجهة المعلومةدون أن يجدوا للطبخ رائحة تشم.
بداية، أغلقت الطريق المؤدية للمنزل ونصبت خيم بلاستيكية بيضاء.
و بمقدمة الزقاق تمدد بساط أحمر لمسافة معتبرة. وعند الباب تجد الطست منتصبا أمامك، فلم يعد الوقت يرحم، وعند مدخل القاعة المتنقلة تجد أهل المناسبة في استقبالك، فعادة ما يتقدمهم صاحب البيت، و إخوته وبنو عمومته الأقربين.
ما أن تعبر البوابة والجا، حتى تجد صفوفا من الموائد رصت بنظام، تحمل نفس اللون، وحول كل مائدة تحلقت كراسي عشرة، مغطاة بأغشية من قماش متماثل الألوان.
وفوق المائدة وضعت صحون من ورق مقوى مختلفة الأحجام، تحوي التمر والحلوى وأنواع المكسرات والفواكه الجافة أحيانا، وبجانبها اصطفت قارورات من ماء وحليب وعصير، بمعية كؤوس زجاجية تطابق عدد الكراسي.
تجمع الموائد عادة أجيالا وأعمارا مختلفة، ومن ثم تكون مواضيع النقاش مختلفة تبعا للاهتمامات.
تبقى الموائد منكفئة على ذاتها، حتى ليخالها الرائي “غرفا” مغلقة وخاصة للدردشة، وأحيانا تجد نقاشين أو أكثر على نفس المائدة.
بعد قليل يصفق أحدهم تصفيقا مسموعا مثيرا للانتباه، ثم يصدح صوت القرآن الكريم عبر مكبر صوتي يغمر المكان.
ثم ينتقل “المايك” إلى “واعظ” يأتي على أخبار الأولين والآخرين، دون تحديد موضوع مفصل للموعظة محذرا من المزامير، ثم يأتي دور الشعراء، فيقرضون الشعر مدحا وشكرا لأهل العرس، ووراثتهم للمجد أبا عن جد.
وقد يطول الحكي ليشمل شعر المواعظ والتربية وغيرها.
وبالمحاذاة مع قاعة الرجال، تنتصب قاعة مماثلة للنساء، وما أن ينهي “الواعظ” درسه، حتى تنطلق الموسيقى والطرب، فلا تكاد أذنك تميز إلا الأرقام تلو الأرقام.
وبعيدا بشقة مفروشة، اعتزلت العروس وصديقاتها. حيث أطلقن موسيقى صاخبة، خليجية تارة، وشعبية تارة، وأحاديث عن ترتيبات الصباحية، وأمور مستحدثة ما سمعنا بها من ذي قبل.
وجاءت الحلاقة، والمزينة، لخدمتها والإشراف على زفها لزوجها في ليلة العمر،
وعندما حل موعد الغداء، جيء بخبز مصفف في سلل من سعف النخيل، و مشروبات غازية ملونة ومتنوعة مرفوقة بقنينة ماء.
ويشرف على الخدمة طاقم من الشبان، ينادون محليا ب “السربايا” يضطلعون بخدمة الناس، لقاء أجرة محددة ومتفق بشأنها سلفا. فيما يضطلع آخرون بنصب القاعات المتنقلة.
بعد ذلك يوضع الطابق الأول حاملا ثلاث دجاجات حمرت وصفرت وكسيت بأنواع الحوامض وغيرها.
يأكل القوم ما شاء الله لهم أن يأكلوا، ثم يرفع ويتلوه صحن من لحم الإبل، ثم يأتي طبق الخماسي، مزينا بإناء يحوي عسلا وسمنا.
وختاما، تأتي قصعة الفواكه بأنواعها، ليمون، وتفاح، وموز، وإجاص، وتوت، وعنب، مزينة بكؤوس الياغورت، وبعض حلويات الشوكولا.
ثم يبرح القوم القاعة، و بالخارج يغسلون أيديهم ويتطيبون بأصناف المسك ويغادرون.

ADS TOP

التعليقات مغلقة.